ميكانيزمات الهيمنة الاقتصادية وتحديات التنمية المستدامة (الرسوم الجمركية الأمريكية تجاه العراق في إطار نظريات التبعية)
ميكانيزمات الهيمنة الاقتصادية وتحديات التنمية المستدامة
(الرسوم الجمركية الأمريكية تجاه العراق في إطار نظريات التبعية)

الباحث: سيف ضياء
عضو الجمعية العراقية للعلوم السياسية


    تعد التدابير الحمائية المتمثلة في الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة مؤخراً على الصادرات العراقية تجسيداً واضحاً لميكانيزمات الهيمنة البنيوية في الاقتصاد السياسي العالمي المعاصر،هذه الإجراءات التي تتخذ ظاهرياً طابع السياسات التجارية التصحيحية، تنطوي في جوهرها على ديناميات عميقة للسيطرة تؤطرها نظريات التبعية وأدبيات ما بعد الكولونيالية في العلاقات الدولية، إذ تعمل على إعادة إنتاج علاقات القوة غير المتكافئة بين دول المركز ودول الأطراف؛ إذ يُمثل الفائض التجاري الذي يحققه العراق مع الولايات المتحدة والبالغ قرابة (ستة مليارات دولار ) والمتمركز أساساً في قطاع الهيدروكربونات المتمثلة بالنفط الاسود ومشتقاته الموجه لمصافي التكرير الأمريكية في (تكساس، وكاليفورنيا)، نقطة ارتكاز مهمة في فهم التوترات الهيكلية في العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، إذ تعكس هذه الفجوة التجارية تناقضات النظام الرأسمالي العالمي، الذي يسعى إلى إدامة أنماط التبادل غير المتكافئ بينما يتذرع بخطاب تحرير التجارة والليبرالية الاقتصادية
     تندرج الإستراتيجية الأمريكية في فرض الرسوم الجمركية ضمن سياق أوسع يعكس تحولات عميقة في بنية النظام الاقتصادي العالمي، وتمثل محاولة لإعادة ترتيب العلاقات التجارية بما يضمن استمرار الهيمنة الاقتصادية للقوى العظمى؛ هذه التحولات، المتجذرة في ديناميات النظام العالمي، تتقاطع مع نظريات التراكم اللامتكافئ والتنمية المعتمدة، إذ تواجه دول الجنوب العالمي قيوداً هيكلية تحد من قدرتها على تحقيق التنمية المستقلة وتنفيذ أجندات التنمية المستدامة؛ في حال لم تحقق هذه الرسوم الجمركية أهدافها المرجوة في تعديل الميزان التجاري، فإن المراحل التالية من الضغط الأمريكي ستتجلى في مساع حثيثة لتوسيع الاختراق الاقتصادي للسوق العراقية وإلزام العراق بزيادة وارداته من المنتجات والخدمات الأمريكية، إذ تشكل هذه الممارسات نموذجاً للاستراتيجيات النيوكولونيالية التي تستهدف دمج اقتصادات دول الجنوب في شبكات الإنتاج والتوزيع العالمية وفق شروط تخدم مصالح القوى المهيمنة، مما يعيق تحقيق التنمية الذاتية المستدامة ويكرس حالة التبعية الهيكلية.

    كما تتسم المفاوضات التجارية بين العراق والولايات المتحدة، من منظور نقدي، بعلاقات قوة غير متوازنة تعكس اللاتماثل البنيوي في النظام الاقتصادي العالمي، إذ إن هذه المفاوضات، التي تتخذ ظاهرياً طابع التفاعلات الثنائية المتكافئة، تشكل في جوهرها ساحة تتجلى فيها ديناميات الهيمنة والإخضاع الاقتصادي، وتبرز فيها التناقضات الجوهرية بين خطاب التعاون الدولي والممارسات الفعلية للقوى المهيمنة في علاقاتها مع دول الجنوب العالمي؛ مع ذلك، يمتلك العراق أوراقاً تفاوضية استراتيجية تتمثل في قدرته على تنويع أسواق الطاقة وإعادة توجيه صادراته النفطية نحو اقتصادات صاعدة تشهد نمواً متزايداً في الطلب على الطاقة، مما يخفف من حدة التأثيرات السلبية للرسوم الجمركية الأمريكية؛ بالتوازي مع ذلك، تواجه الشركات الأمريكية المتخصصة في قطاع الطاقة والمستهلك الأمريكي تكاليف إضافية ناجمة عن هذه الرسوم، مما يشكل إشكالية ذاتية في بنية السياسة الحمائية الأمريكية ويمنح العراق هامشاً للمناورة في المسارات التفاوضية؛ تعد هذه الديناميات المعقدة عن التناقضات الهيكلية في النظام الرأسمالي العالمي، إذ تتجلى آليات الاستغلال والهيمنة في إطار علاقات (الشمال-الجنوب) ؛ تواجه دول الجنوب في هذا السياق، تحديات جسيمة في تنفيذ أجندات التنمية المستدامة في ظل بنى عالمية تكرس التبعية وتحد من الحيز السياساتي المتاح لصياغة استراتيجيات تنموية مستقلة، يتطلب تجاوز هذه الإشكاليات إعادة هيكلة جذرية للنظام الاقتصادي العالمي وفق أسس تضمن العدالة والإنصاف وتحترم سيادة الدول على مواردها الطبيعية وخياراتها التنموية، إذ تُقدم حالة الرسوم الجمركية الأمريكية على العراق، في المحصلة النهائية، دراسة حالة مكثفة تكشف عن الآليات المعقدة التي تُعيد من خلالها القوى المهيمنة إنتاج علاقات التبعية، وتبرز التحديات الهيكلية التي تواجه مساعي دول الجنوب العالمي لتحقيق التنمية المستدامة والاستقلالية الاقتصادية في ظل منظومة عالمية تحكمها علاقات القوة غير المتكافئة ومنطق التراكم الرأسمالي.
2025-04-04 03:33 AM11377