الصراع الجيوسياسي في الكاريبي: فنزويلا بين التهديدات الأمريكية والتحالفات الإقليمية
الصراع الجيوسياسي في الكاريبي: فنزويلا بين التهديدات الأمريكية والتحالفات الإقليمية

الباحث: هيثم عبدالله ضاحي العلواني
عضو الجمعية العراقية للعلوم السياسية

 
   يُعدّ بحر الكاريبي واحدًا من أكثر المسارح الاستراتيجية حساسية في نصف الكرة الغربي، إذ يشكل حلقة وصل بين المحيط الأطلسي وأمريكا اللاتينية، وممراً حيوياً للملاحة الدولية والتجارة العالمية في هذا السياق، برزت فنزويلا كدولة تمتلك موقعاً جغرافياً مميزاً وثروات نفطية هائلة، ما جعلها في قلب صراع جيوسياسي متجدد بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وقوى إقليمية ودولية أخرى من جهة ثانية.
  منذ صعود هوغو تشافيز إلى السلطة عام 1999، تبنّت فنزويلا خطاباً مناهضاً للهيمنة الأمريكية، سعت من خلاله إلى بناء نموذج بديل للعلاقات الدولية قائم على التعددية ورفض التبعية لواشنطن هذا التوجه جعلها عرضة لسلسلة من العقوبات الاقتصادية والضغوط السياسية، تعمقت لاحقاً في عهد الرئيس نيكولاس مادورو، حيث اتهمت الإدارة الأمريكية كراكاس بانتهاك حقوق الإنسان وتقويض الديمقراطية.
   لم تتوقف واشنطن عند فرض العقوبات، بل ذهبت أبعد من ذلك عبر دعم المعارضة الفنزويلية سياسياً وإعلامياً، واعتبار زعيمها خوان غوايدو "رئيساً شرعياً" لفترة وجيزة كما كثّفت وجودها العسكري في منطقة الكاريبي، تحت ذريعة مكافحة تهريب المخدرات، في رسالة واضحة لردع أي محاولة من فنزويلا لتعزيز تحالفاتها مع خصوم واشنطن، وعلى رأسهم روسيا وإيران.
    في مواجهة هذه التهديدات، لم تقف فنزويلا مكتوفة الأيدي فقد سعت إلى توثيق تحالفاتها الإقليمية من خلال الانخراط في منظمات مثل "التحالف البوليفاري لشعوب أمريكا" (ألبا)، الذي يضم دولاً مثل كوبا ونيكاراغوا وبوليفيا هذا التحالف منحها غطاءً سياسياً في مواجهة الضغوط الأمريكية، ورسّخ خطاب المقاومة في مواجهة ما تعتبره "إمبريالية جديدة".
    إلى جانب ذلك، نسجت كاراكاس علاقات متينة مع قوى دولية منافسة لواشنطن، خصوصاً روسيا التي زودتها بالأسلحة والدعم السياسي في مجلس الأمن، والصين التي استثمرت مليارات الدولارات في قطاع النفط والبنية التحتية أما إيران، فقد شكلت شريكاً استراتيجياً في كسر الحصار النفطي عبر إرسال شحنات وقود ومساعدات تقنية، ما أثار غضب الولايات المتحدة وأدى إلى تصعيد التوترات في مياه الكاريبي.
الصراع في الكاريبي يتجاوز حدود فنزويلا، إذ يمثل اختباراً لمعادلة النفوذ في نصف الكرة الغربي فالولايات المتحدة تعتبر المنطقة "حديقتها الخلفية" وفق مبدأ مونرو (1823)، الذي رسّخ فكرة رفض أي تدخل خارجي في شؤون الأمريكيتين غير أن الواقع المعاصر يشير إلى تآكل هذا المبدأ أمام التمدد الروسي والصيني والإيراني، ما يهدد بتعدد مراكز القوة في المنطقة.
    من جهة أخرى، يُظهر هذا الصراع التداخل بين الاقتصاد والسياسة والأمن فالعقوبات الأمريكية لم تقتصر على النظام السياسي الفنزويلي، بل أثرت بشكل مباشر على الشعب عبر تدهور الأوضاع المعيشية وانهيار العملة المحلية في المقابل، استخدمت الحكومة الفنزويلية التحالفات الدولية كأداة لتخفيف هذه التداعيات، لكنها لم تنجح حتى الآن في كسر العزلة بشكل كامل.
    في المستقبل من المرجح أن يستمر الصراع الجيوسياسي في الكاريبي ما دامت فنزويلا متمسكة بخطابها المناهض لواشنطن، وما دامت القوى الدولية ترى فيها منفذاً لتعزيز نفوذها في نصف الكرة الغربي غير أن السيناريوهات المستقبلية تبقى مفتوحة فإما أن تتصاعد المواجهة إلى مستويات أكثر خطورة، خاصة إذا حاولت الولايات المتحدة فرض حصار بحري أو دعم تدخل داخلي؛ أو أن تتجه الأطراف نحو تسويات محدودة تتيح لفنزويلا متنفساً اقتصادياً مقابل تقليص علاقاتها مع خصوم واشنطن.
     ختاما يظل بحر الكاريبي مرآة لصراع النفوذ العالمي، حيث تتحول فنزويلا إلى ساحة اختبار بين الانفرادية الأمريكية والتعددية الدولية وهو صراع لن يحسم قريباً، بل سيبقى عنواناً بارزاً لمعادلات القوة في القرن الحادي والعشرين.
2025-09-11 02:25 AM5094